[color=blue]لابد للمسلم من أوقات يخلو بها مع نفسه يذكر ربه ويناجيه ويحاسب نفسه يعاتبها ويتدبر ويتفكر، وإلا وقع في شراك الغفلة وقساوة القلب. فلا أصلح ولا أزكى للنفس من الانفراد بالذكر والخلوة والمحاسبة.
ولذلك كانت المحاسبة من أعظم مقامات الدين قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" فالله يأمر العبد بأن يحاسب نفسه وينظر ما قدمت هذه النفس ليوم القيامة.
ولا يمكن للمسلم أن يحاسب نفسه ويعاتبها إلا إذا كانت له خلوة مع ربه عز وجل. قال شيخ الإسلام: ولابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبته نفسه وإصلاح قلبه.
قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه.
يقول أنس: سمعت عمر بن الخطاب يقول وهو داخل البستان وبيني وبينه الجدار: عمر أمير المؤمنين، بخ بخ، والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك.
وقال مسلم بن يسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله.
وذكر أحمد بن حنبل يوما فقال عبدالله بن المبارك: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له.
أيها الإخوة إن تلك الخلوات وسيلة مشروعة لتحقيق غاية عظمى وهي إصلاح القلب وزيادة الإيمان وشحذ الهمة للعمل والعبادة والدعوة إلى الله، وليست الخلوة غاية في ذاتها يكتف بها عن العمل فتخصص لها الأوقات والأماكن وتتل فيها الأذكار والأوراد كما يفعل بعض الصوفية في خلواتهم المبتدعة، بل هذه الخلوة يحتاط المسلم ولاتصرف عن مخالطة الناس وعن الأعمال الطاهرة والتزام الجمعة والجماعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 – ومن وسائل إصلاح السريرة: المراقبة، أن يتيقن المسلم بأن الله يراقبه ومطلع عليه وأنه لا تخفى عليه خافية مهما بالغ العبد في إخفائها ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور.
فمتى ما أحس العبد بانفراده وخلوته وتحرك في نفسه داعي المعصية فليتذكر أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فيدفع تلك الخاطرة ولسان حاله يقول:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها أين الذي خلق الظلام يراني
فمتى ما خلوت بمعصية فتذكر نظر الرب إليك إنه يراقبك ويسمعك -------
سئل بعض السلف بما يُستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور.
وسئل آخر عن المراقبة فقال: علم القلب بقرب الرب.
وهذا هو مقام الإحسان أن تستحفز نظر الرب إليك دائما وأبدا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ولايكن حالك كمن قيل فيهم:
أما الذي أغلق الأبواب مجتهدا ----- وعين الله تنظرني
3 – ومن وسائل إصلاح السريرة: الحياء من الله. إن الحياء من الله يدفع إلى ترك كل قبيح يكرهه الله وفعل كل يحبه الله، بحيث لا يرك ربك أبدا حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك. صح في السند أن رجلا قال ذات يوم للنبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيك أن تستحي الله كما تستحي رجلا صالحا من قومك.
ومعنى الحديث أن الإنسان إذا علم أن رجلا صالحا ينظر إليه أو يسمع كلامه أمسك عن كل ما يخاف أن يمقته عليه أو يضع من قدره عنده، ولو علم أنه يطلع على ما في ضميره لما أضمر إلا ما يعلم أنه يحسن عنده ويجمل. هذا في حق المخلوق فكيف حق الخالق، لاشك بأن الله أولى من الخلوق فيجب أن تستحي منه أكثر من استحيائك من الخلوق.
قال ابن مسعود: من صلى صلاة والناس ينظرون إليه فإذا خلا فليصل مثلها فإن لم يفعل فإنه استهانة يستهين بها ربه ألا يستحي أن يكون الناس أعظم في عينيه من الله تعالى.
4 – ومن وسائل إصلاح السريرة تذكر المساءلة بين يدي الله عز وجل: فيذكر المسلم موقف الحساب والعرض على رب الأرباب "ويومئذ تعرضون ولا تخفى منكم خافية" وقد وقف الناس للحساب ودنت الشمس من رؤوس العباد وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ووقف الملائكة الكرام واشتد الزحام "وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا" فيتذكر ذله عندما يُدعى للوقوف بين يدي الجليل "إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" بأي قدم تقف بين يديه؟ وبأي عمل تقدم عليه؟ وبأي لسان تتحدث إليه؟ وفي يدك كتاب عملك لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فأعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا . صح في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشمل منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
5 – ومن وسائل إصلاح السريرة: التوبة. إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيتوب توبة نصوحا يقلع معها عن معاصيه ويندم على ما سلف منه في ماضيه ويعزم على أن لا يعود وهو يتمثل قول القائل:
كم قد زللت فلم أذكرك في زللي وأنت يا سيدي في الغيب تذكرني
كم أكشف الستر جهلا من معصيتي وأنت تلطف بي حقا وتسترني
لأبكين بدمع العين من أسف لأبكين بكاء الواله الحزن
وليحذر كل الحذر من أن يحدث بأعماله في الخلوة مهما كانت طاعة أو معصية، فإن الشيطان لا يزال حتى يخرجها ويحدث بها فإن كانت طاعة أفسدها بالغي والرياء، وإن كانت معصية فلإشاعة الفاحشة بين المؤمنين فيحرم من معافاة رب العالمين.
إن من يكشف ستر الله عن معاصية فقد أصبح من المجاهرينالذين لا يستحقون المعافاة، وقد صح في صحيح البخاري "كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه".
قال إبراهيم ---: أعظم الذنب عند الله عز وجل أن يحدث العبد بما ستر الله عليه.
أما من ستر على نفسه وقصد التستر بما جاء من الله ومن الناس ستره الله في الدنيا فإذا قاده ذلك إلى الندم والاستغفار سترها الله عليه في الآخرة.
كما صح في صحيح البخاري "يدنوا أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم".
6 – ومن وسائل إصلاح السريرة: الدعاء. فيكثر من الدعاء والتضرع إلى الله أن يصلح سريرته ويطهر باطنه، ويتحرى بذلك أوقات الإجابة وأسباب الاستجابة ويقول الأدعية الواردة من القرآن والسنة مثل "ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء"، ومثل "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" ومثل "ربنا اغفر لنا ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم".
مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". ومثل قوله كما في الصحيحين: "اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا".
وكان من دعاء علي بن الحسين: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لواقع العيون علانيتي وتقبح في خفيات العيون سريرتي اللهم كما أسأت وأحسنت إلي فإذا عدتُ فعد علي.
أيها الإخوة فلنتقي الله ولنعلم أننا جميعا موقوفون أمام ربنا عز وجل فيخبرنا عن أعمالنا الظاهرة والباطنة فهل أعددنا لهذا السؤال جوابا؟ "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير. يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد".
/color][b]